الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة رفعت ضدّها الدول العربية "الفيتو" واحتضنها مهرجان قرطاج: "ملوك الطوائف".. هكذا انقسم العرب منذ سقوط الأندلس...

نشر في  17 جويلية 2019  (00:57)

 "نريد أن نكون عرب المستقبل لا عرب التاريخ" جملة خطّها الراحل منصور الرحباني مؤلف وملحن "ملوك الطوائف" سنة 2003 واختارها غدّي الرحباني ليسدل بها الستار عن هذه الملحمة التاريخية التي رويت فصولها لأول مرة في تونس مساء الاثنين 15 جويلية على ركح المسرح الروماني بقرطاج..

"ملوك الطوائف" هذه الأوبيرات الضخمة الحاملة لامضاء الرحابنة نصا واخراجا وتلحينا وتوزيعا لم تجد الترحاب في جل الدول العربية باستثناء لبنان التي عرضت فيها مدّة 8 أشهر متتالية وكانت انذاك من بطولة الفنّان غسان صليبا والفنّانة كارول سماحة، كما أعيد عرضُها لمرّة واحدة فقط في قطر سنة 2010 ومثّلت أنذاك الفنّانة هبة طوجي دورَ "اعتماد الرميكية" عوضاً عن الفنّانة كارول سماحة، هاهي اليوم تحط الرحال في تونس وتحديدا بالدورة 55 لمهرجان قرطاج الدولي في عرضين متتالين وأمام جمهور غفير واكب على مدار ساعتين و50 دقيقة، تاريخ نهاية الأندلس وفترة ملوك الطوائف..

 

مشهدية بصرية، وصورة متكاملة وأداء متناسق وأغان راوحت بين الرومنسي والملحمي .. تشويق ونسق تصاعدي كلها عناصر دفعت جمهور قرطاج الى عدم مبارحة المسرح الروماني سوى مع انتهاء العرض ليحيي طويلا عناصر فرقة قارب عددهم المائة.

صحيح ان المخرج اللبناني الراحل منصور الرحباني اختار في هذه الملحمة التاريخية العودة الى القرن الحادي عشر وتحديدا الى فترة ملوك الطوائف بالأندلس، لكن المتمعن في فصول هذا العمل المسرحي والزوايا التي اشتغل عليها الرحابنة وسلطوا عليها الأضواء يلاحظ أن الأمس لا يختلف عن اليوم وان التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الأزمنة، فبسوداوية تخللتها الكثير من السخرية تحدث الرحباني عن نفاق الساسة وانشغالهم عن أمور الرعية، عن الانقسامات وولاء العرب للغرب، وروى ما يحدث في الكواليس من دسائس وضغائن، كما لم يفته الحديث بطريقة فيها من الذكاء الكثير عن القمم العربية واكتفاء الدول المشاركة فيها بالاستنكار والتنديد دون البحث عن حلول ناجعة، اسقاطات حاول من خلالها الرحباني القول ان الملك زائل لكن الأوطان باقية كما جاء في أحد مشاهد "ملوك الطوائف" .

وتروي هذه المسرحية الغنائية مدة 3 ساعات تاريخ انقسام الأندلس الى دويلات على غرار قرطبة وغرناطة واشبيلية، وكيف تحولت هذه الدويلات الى غنيمة أمام ملك "قشتالة" "ألفونسو السادس" الذي استغل حالة الفرقة ليبرم اتفاقيات سرية مع كل ملك من ملوك الطوائف مضمونها خيانة بقية الطوائف .

 

أحداث يخيّل الينا أنها دخلت طيّ النسيان، لكن باعادة التمعن فيها نلاحظ أنها لا تختلف عن حاضرنا بل مطابقة له أحيانا، وهو ما سعى الرحباني الأب الى ايصاله عبر نص مسرحيته، ليتكفل "الرحابنة" بتجسيد ذلك ركحيا عبر رؤية سينوغرافية بصرية من لوحات راقصة في غاية التناسق والحرفية الى الأزياء التي راوحت بين العربية والأندلسية والاسبانية والبربرية الى الديكور والاضاءة والرقص والموشحات اضافة الى الاداء الذي مازج بين المواقف الدرامية تارة والكوميدية أخرى، مع الاعتماد في كل هذا على نسق تصاعدي نجده في جل أعمال الرحابنة التي تنتمي الى المسرح التاريخي الاستعراضي.

أحداث تراجدية ومواقف طريفة وساخرة، روت في فصلين فترة ملوك الطوائف واحدة من أبرز الفترات التاريخية التي مرت بها الأندلس رغم قصر مدتها هذه الفترة التي سيطرت عليها الأطماع والدسائس مما أدى الى سقوط الأندلس. ومن بين الأمور التي لا بد من التطرق اليها هي تسليط المسرحية الضوء على أشهر ملك من ملوك الطوائف دون غيره ونقصد المعتمد بن عباد الذي ولئن تميز بعديد الصفات السلبية التي أدت الى زوال ملكه فانه كان الأفضل مقارنة ببقية الملوك حيث كان محبا للأدب والشعر ومحسنا لرعيته، وعن هؤلاء الملوك تحدث غدّي الرحباني قائلا :" ملوك الطوائف يتكررون، يعودون في أزمنة وأمكنة متعددّة ولعلنا اليوم نعيش هذا التاريخ وقد نصادف أحد هؤلاء الملوك يتصدّر إحدى الحفلات، أو يصرّح لوسيلة إعلامية".

ولئن سيطر الجانب التراجيدي على هذا العمل المسرحي فانه لم يخل من رومنسية ومن حب وعطاء ووفاءوهو ما تلمسه من خلال قصة حب "اعتماد الرميكية" الخادمة التي أصبحت سيدة القصر والتي جسدت دورها هبة الطوجي وملك اشبيلية المعتمد بن عباد الذي جسد دوره غسان صليبا ولأن مسرحية "ملوك الطوائف" تضع الاصبع على الداء وتسقط الماضي على الحاضر وتحاكي مع تعيشه الدول العربية اليوم من نفاق سياسي عبر قراءة لتاريخ سقوط الأندلس فان هذا العمل الملحمي ورغم ما يتميز به من جدية في الطرح ومجهود في الأداء وجودة في الرؤية الاخراجية والسنوغرافية، لن يجد الترحاب لا من الشعوب العربية بل من الأنظمة الحاكمة التي وعلى ما يبدو رفعت الفيتو في حقه وهو ما يجعلنا نؤكد أن قرطاج كسب الرهان باحتضان "ملوك الطوائف" عرى ركحه في الدورة 55.

"نريد أن نكون عرب المستقبل لا عرب التاريخ"، جملة استهلينا بها مقالنا ونختم بها علّ هذه العبرة ترسخ في الأذهان فنحن المستقبل لا التاريخ ..

"ملوك الطوائف" تأليف وتلحين المخرج منصور الرحباني، إخراج مروان الرحباني، شارك في التلحين والتوزيع كلّ من غدي الرَّحباني وأسامة الرَّحباني ومروان الرَّحباني وإلياس الرَّحباني.

سناء الماجري